شريك- من نفايات المجتمع إلى فرص حياة جديدة

(1)
في إحدى ليالي نهاية الأسبوع المفعمة بالحيوية، بينما كان جورج في طريقه إلى منزله بعد قضاء سهرة ممتعة، استوقفه شخص بالقرب من مسكنه. كان ذلك الشخص يحدق فيه بتدقيق شديد، ثم سأله بلهجة تحمل شيئًا من الشك: "ألا تتذكرني؟". لقد كان صديقًا قديمًا من أيام الطفولة. في الظروف العادية، كان من الممكن أن ينتهي اللقاء بتبادل الذكريات الجميلة واستعادة أيام الصبا، لكن هذا الصديق باح لجورج بتجربة قاسية ألمَّت به، وكشف له عن وضعه الراهن الذي لم يكن ليخطر بباله أبدًا أنه سيصل إليه.
أدرك جورج حينها وجود خلل جوهري في المجتمع اللبناني؛ ففي حين أن هناك العديد من المؤسسات والجمعيات التي تُعنى بالسجين داخل أسوار السجن، أو بمدمن المخدرات في مرحلة التعافي والتأهيل، فإن الدعم غالبًا ما ينقطع بعد إطلاق سراحهم، ويكاد لا يوجد من يمد لهم يد العون لكي يندمجوا في المجتمع مرة أخرى.
(2)
روى الصديق لجورج قصته المؤلمة، بدءًا من سقوطه في براثن الإدمان الذي أودى به إلى السجن، ومرورًا بمرحلة التعافي التي تلت قضاء فترة العقوبة والإفراج عنه، وصولًا إلى فرحته العارمة وإصراره على المضي قدمًا في دروب الحياة. ثم تحدث عن خيبة أمله المرة والمرارة التي تجرعها من مجتمع يرفض استقباله ولفظه بقسوة، حتى إنه يمتنع عن توظيفه ويتركه يواجه الحاجة والعوز بكل صورهما القاسية.
انتهى اللقاء وانصرف كل منهما في سبيله، وعلى الرغم من النهاية المحزنة، إلا أن الجانب المشرق في هذا الموقف هو أن شكوى الصديق ظلت عالقة في ذهن جورج، واستشعره بمسؤولية شخصية تجاه إنقاذه. فجأة، قفزت إلى ذهنه فكرة لامعة: لماذا لا يأتي بصديقه المنكوب إلى ورشة والده ليتعلم مهنة إصلاح الدراجات النارية؟ بذلك، سيتعافى من شعوره بالنبذ والإقصاء، وسيدرك أن هناك من يحبه ويرغب في مد يد المساعدة له.
انتشرت قصة جورج كالنار في الهشيم، وما هي إلا أيام قليلة حتى بدأ متعافون آخرون يطرقون بابه، سائلين عن فرصة عمل. ولأنه لم يكن مستعدًا لمهمة بهذا الحجم، أطلق العنان لخياله وتفكيره ليجد الحلول الممكنة.
كان جورج يدرك تمام الإدراك أن هناك فجوة عميقة في المجتمع اللبناني، حيث تتكاثر الجمعيات التي تولي اهتمامًا كبيرًا بالسجين وهو خلف القضبان، أو بمدمن المخدرات أثناء فترة التأهيل، لكنها سرعان ما تتجاهلهم بعد إطلاق سراحهم، وتُهمل مساعدتهم على الاندماج مجددًا في المجتمع.
من الخطأ الفادح أن ننتظر فكرة جاهزة كاملة تهبط علينا من السماء، هذا ما يؤمن به جورج. لذلك، بدأ في إعمال عقله في جميع الاتجاهات، وفكر مليًا في أن كل شخص يحتاج إلى أن يشعر بأنه عنصر فعال ومنتج في المجتمع. كما تفكر في كيفية الجمع بين حبه للفن والبيئة ورغبته العميقة في مساعدة هؤلاء المتعافين.
تذكر فجأة ما حدث عندما عثر على حقيبة سفر قديمة تخلصت منها جارته عند مدخل المنزل، وكيف طلب من نجار ماهر تحويلها إلى "كنبة عصرية" فريدة من نوعها. وكانت النتيجة قطعة أثاث فنية لفتت أنظار الكثيرين وأثارت إعجابهم.
بدأت الفكرة تتضح في ذهنه أكثر فأكثر، فقرر أنه لن يحل مشكلة واحدة فحسب، بل سيضرب عصفور عدة عصافير بحجر واحد.
تتلخص الفكرة في تدوير الأغراض المنزلية القديمة وتحويلها إلى قطع أثاث فريدة من نوعها، وبالتالي خلق فرص عمل للمتعافين من إدمان المخدرات، والسجناء السابقين، والعمال غير المهرة، بالإضافة إلى الشباب الموهوبين الذين يبحثون عن منفذ لإبداعاتهم.
باح جورج بهذه الفكرة إلى بعض الأصدقاء المقربين، فتحمسوا لها أيما تحمس، وأطلقوا على مشروعهم اسم "شريك"، وحرصًا على تجنب أي التباس أو سوء فهم، جعلوه مؤسسة غير ربحية. وكان ذلك تحديدًا في شهر يونيو/حزيران من عام 2014.
يومًا بعد يوم، كان المشروع يكبر ويتسع نطاقه، وبدأ يستقبل العشرات من المكالمات الهاتفية من أشخاص يبحثون عن عمل. ونجح بالفعل في تدريب ما يقارب 200 شاب وشابة على الصناعة اليدوية الإبداعية، وتمكن من توظيف حوالي 50 منهم في مؤسسات مختلفة. كما استطاع المشروع تحويل ما يزيد عن 300 طن من النفايات غير القابلة للتدوير إلى قطع فنية رائعة، وذلك في فترة زمنية وجيزة.
ينطلق جورج دائمًا من "الشوارع الصغيرة المتسخة"، كما يحلو له أن يسميها، لتقييم احتياجات الناس بصورة واقعية وملموسة، وفهم كيفية تقديم المساعدة لهم على أفضل وجه.
اكتسبت مبادرته زخمًا كبيرًا وانتقلت إلى مستوى أعلى، فبدأ العمل على برامج لمتابعة المتعافين بالتنسيق مع مراكز إعادة التأهيل، وذلك بهدف توفير تدريبات متخصصة في التطوير الشخصي والمهارات الحياتية. كان الهدف واضحًا نصب عينيه: مساعدة الشباب على إنشاء وظائفهم الخاصة أو التحول إلى رواد أعمال ناجحين.
مع مرور الوقت وتوالي النجاحات، تحولت مؤسسته إلى جمعية متعددة الأهداف والاستراتيجيات، لكن نشر الجمال والحفاظ على البيئة ومساعدة الفئات المهمشة ظلت هي البوصلة التي توجهه في كل مبادرة جديدة.
أطلق جورج حملة لإيواء المشردين وتوفير المأوى الآمن لهم، وتعاون مع البلديات لوضع خطط فعالة لإدارة النفايات، ثم قام بتطوير نظام جديد للغاز الحيوي ليكون جزءًا من الحل الشامل لمشكلة النفايات العضوية وتحويلها إلى طاقة نظيفة.
وعندما برزت الحاجة الملحة إلى استعادة المساحات الخضراء والغابات في لبنان، أطلق جورج ومؤسسته حملة سنوية لزراعة الأشجار في المناطق الأكثر تضررًا والتي تعاني من التصحر.
من زراعة الغابات إلى الإبحار بقارب مصنوع من البلاستيك، لم تتوقف المؤسسة عن الابتكار والبحث عن حلول غير تقليدية. فبالتعاون مع الجامعة اللبنانية الأمريكية، تم التواصل مع المدارس في مختلف المناطق اللبنانية لجمع أكبر قدر ممكن من القناني البلاستيكية، ومن ثم تولى فريق من طلاب كلية الهندسة في الجامعة الإشراف على عملية بناء قارب فريد من نوعه مصنوع بالكامل من البلاستيك.
وعلى خطى الفينيقيين القدماء، انطلقت السفينة التي يبلغ وزنها 5 أطنان من الهواء المضغوط، وتمتد حتى 13 مترًا طولًا و 4 أمتار عرضًا، من ميناء جبيل التاريخي إلى بيروت، وذلك بهدف رفع الوعي بمضار البلاستيك ومخاطر التخلص منه في البحر.
لم يكتف جورج بتقديم المساعدة المادية والمعنوية، بل توجه مع رفاقه في نفس ليلة انفجار مرفأ بيروت المروع لتوفير الغذاء والدواء والدعم النفسي للمنكوبين والمتضررين، ثم لتقديم خدمات التصليح والبناء في وقت لاحق.
وحينما كان فيروس كورونا يجتاح العالم، كان جورج ورفاقه ينظمون ماراثونًا لتوزيع الأدوية والمواد الغذائية الأساسية على المحتاجين. أما بعد انتشار فيروس كورونا في لبنان وتطبيق الإغلاقات الصارمة، فقد أطلقوا حملات متنوعة لتوفير أنابيب الأكسجين، وحتى تنظيم فعاليات موسيقية عبر الإنترنت للتخفيف من وطأة الحجر المنزلي.
يؤمن جورج غفري إيمانًا راسخًا بأن الفقراء لا يستمتعون بالبؤس والشقاء، فكل إنسان لديه رغبة داخلية في أن يشعر بقدرته على الإنتاج والعطاء، وأن الجميع يستحق فرصة ثانية لإثبات ذاته وتحقيق أحلامه. لذلك، يستمر جورج في تقديم يد المساعدة والعون كلما سنحت له الفرصة، إنه لا يقدم المساعدة فحسب، بل يلهم الآخرين لكي يحذوا حذوه ويسلكوا طريقه في العمل الخيري والتطوعي.